الحب الاول والأخير
هذا العنوان يمكن أن يقرأ علي وجهين، وكل علي ليلاه يغني. فقد يفهم البعض منه أن الحب الذي نصادفه لأول مرة هو الحب الحقيقي، الذي لا يأتي بعده حب، وقد يري آخرون أن تلك العبارة تعني أن الحب الأخير الذي انتهي إليه الإنسان، بعد أن تقلب علي تجارب متنوعة وحط كالعصفور علي قلوب متعددة هو الأكثر صدقاً والأشد نضجاً.
وأتصور أن ذلك الضيف (الحب)، سواء كان أولاً أو أخيراً، لم يحل علي الكثيرين حتي الآن، فالإنسان تحت ضغط وزخم التجربة كثيراً ما يظن أنه الحب، ثم يدرك بعد ذلك أن لا!.
الحب لا أول له ولا آخر، لأنه فكرة في أذهاننا، نعيش دائماً في حالة بحث عن الإنسان، أو الإنسانة التي نلبسه ثوبها، وفي ظلاله نعيش أعلي لحظات البهجة والنشوة، طالما استطاع الشريك أن يغذي تلك الفكرة الهائمة في أذهاننا، حتي إذا فقد بريقه وقدرته علي إثارة النفس والوجدان، ولم يعد الجسد ينتفض والقلب يدق حين يراه، نبدأ سريعاً في البحث عن مثير جديد يغذي تلك الفكرة، وذلك الإحساس الساكن فينا ليل نهار.
لذلك فمن يدعي أن حبه الأول هو الحب الحقيقي في حياته هو إنسان كسول، لا يفهم أن الحب فكرة وإحساس، ومن يزعم أن الحب الصادق هو الحب الأخير إنسان مستسلم، أعياه كثرة الترحال من قلب إلي قلب، وأصبح عصفوراً جريحاً أتعبته السنون، ولم تعد لديه القدرة علي الطيران، بعد أن تكسرت أجنحته وأعجزته عن الطيران والتحليق، يحط علي حب جديد.
وقد يكون الشخص الذي يعزف عن الحب - علي طول الخط - هو الأكثر صدقاً، إذ لا يثق في قيمة الحب الأول ولا يفهم معني الحب الأخير، لذلك نجد أن شاعراً من طراز الراحل «نزار قباني» لم يتوجه بالحب والتعبد إلي محبوبته بل إلي ذاته، حين صدح قائلاً: «جربت ألف عبادة وعبادة.. فوجدت أفضلها عبادة ذاتي».
لم يقع نزار في تناقض الشاعر «أبو تمام» حين قال: «نقل فؤادك حيث شئت من الهوي.. ما الحب إلا للحبيب الأول» فكيف يكون الحب مستقراً بين أضلع إنسان ثم ينتقل إلي غيره.
فالعبرة في التنقل من زهرة إلي أخري، هي محاولة استنشاق العبير الذي يغذي هذا الإحساس بغض النظر عن الزهرة الأولي. فنحن نحب «الحب» ذاته، نهوي أن نعيش في رحابه وتحت ظلاله، ذلك الخدر اللذيذ الذي يأخذنا كي نغتسل في نهره، ونطرح ما أثقل كاهلنا من هموم وأحزان وطعنات وإحباطات.
لذلك نجد أن الأكثر احتفاء بالحب هم الأكثر عناء ومعاناة، هؤلاء الذين أجهدتهم الحياة أو أجهدوا أنفسهم من أجل الحياة. فالإنسان الطموح الذي يسعي إلي تحقيق إنجازات متميزة في الحياة يكون أكثر إحساساً بقيمة الحب، وأسرع إلي الوقوع في شباكه.
والمبدعون كثيراً ما تجدهم عاجزين عن الاستسلام لفكرة عدم وجود حب جديد في حياتهم يغذي مشاعرهم وأحاسيسهم «أحبيني خمس دقائق كي أكتب شعراً»، والمجتهدون في هذه الحياة أيضاً يجدون في الحب السلوي والعوض عما يفقدون في الحياة من متع، كضريبة يدفعها من يبحثون عن التحقق.
لذلك فتراجع قيمة الحب في حياتنا يعني ببساطة تراجع معاني الطموح والإبداع والاجتهاد، والواقع الذي يهزم الحب يحيل العديد من المعاني الأخري الجميلة والنبيلة إلي التقاعد. وانظر حولك!.